ســــورة الأعـــراف هي مكية, إلا ثمان آيات, وهي قوله تعالى: "واسألهم عن القرية" [الأعراف: 163] إلى قول: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم" [الأعراف: 171]. وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف, فرقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبدالحق.
اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة; فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن, ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه, ولا يجب أن يتكلم فيها, ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور, ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء, وأطلعكم على ما شاء, فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه, وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به, وما بكل القرآن تعلمون, ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم, اختبارا من الله عز وجل وامتحانا; فمن آمن بها أثيب وسعد, ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبدالله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب, ثم قرأ: "الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3].
قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه, وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في (آل عمران) إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها, ويلتمس الفوائد التي تحتها, والمعاني التي تتخرج عليها; واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة; فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم, إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم; ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن, فلما سمعوا: "الم" و "المص" استنكروا هذا اللفظ, فلما أنصـتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها; كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله, واللام من جبريل, والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله, واللام مفتاح اسمه لطيف, والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: "الم" قال: أنا الله أعلم, "الر" أنا الله أرى, "المص" أنا الله أفضل. فالألف تؤدي عن معنى أنا, واللام تؤدي عن اسم الله, والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى; وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها, كقوله:
فقلت لها قفي فقالت قاف
أراد: قالت وقفت. وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء. وقال آخر:
نادوهم ألا الجموا ألاتا قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون, قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أق; كما قال عليه السلام (كفى بالسيف شا) معناه: شافيا.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها, وهي من أسمائه; عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما; ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف, فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: "لا ريب فيه" فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه; لكان الكلام سديدا, وتكون "لا" جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.
فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى, وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق, ومكذب; فالمصدق يصدق بغير قسم, والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب; والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه; والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجه فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: "الم" أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: "الم" فال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة, ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي, ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال; فالله أعلم.
والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا; لأنها ليست أسماء متمكنة, ولا أفعالا مضارعة; وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه. ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر; أي هذه "الم"; كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك; كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كيسان النحوي: "الم" في موضع نصب; كما تقول: اقرأ "الم" أو عليك "الم". وقيل: في موضع خفض بالقسم; لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.